في الوقت الذي نخشى فيه على أبنائنا ممن تُغريهم أوهام الهجرة غير الشرعية التي كثيرا ما انتهت بآلام تُسببها قوارب الموت التي تعجل بالقرب من الشقاء أكثر من وهْم الثروة،
فان البعض من رياضيي النخب التونسية خيّروا أن يسلكوا نفس الطريق والهروب أو “الحرقة”، بحثا عن إثبات الذات في بلدان أخرى قد تسثمر ما يملكونه من مواهب و طاقات ظلت دفينة هنا.
لم أكن أرغب في الكتابة أو الخوض في الموضوع و لكن الظرفية جعلتني أكتب قهرا و ألما و حزنًا على أبطالنا الذين يذبل بريقهم يوما بعد يوم …
في الفترة الاخيرة، بعض من أبطال الملاكمة ممن ينتمون للمنتخب الوطني وهم عناصر واعدة مازالوا في أصناف الشباب و كانوا قد حققوا نتيجة إيجابية على المستوى الإقليمي و الوطني ( آخرها كان بالبطولة العربية للملاكمة 2020 و 2022)، خيّروا الهروب مخاطرين بحياتهم عبر الأمواج العاتية التي تقذف بسفنهم الخشبية المتهالكة ” قارب الموت ” و التي تتكدس فيها أجسادهم المنهكة لا يرونها إلا جسرًا ينجيهم من جحيم الحاجة والفقر ويُخرجهم من جب الخيبات.
الحقيقة أن ظاهرة “الحرقة” في الواقع ليست جديدة ولكن تفشيها في مختلف الشرائح الاجتماعية وتفاقمها مؤخرا في الرياضيين و الأبطال على غرار هروب الملاكمين جعلتنا نفتح الملف بحثا عن سبل البحث عن حلول.
التهميش والوعود الزائفة هي الاسباب الحقيقية لظاهرة الحرقة في الملاكمة
لكم فقدنا في السنوات الاخيرة عددًا كبيرًا من أبطال الملاكمة وغيرهم من أبطال الرياضات الفردية ممن خيّروا الهروب سواء ( الهروب الرياضي من الدورات و البطولات و التربصات أو الهروب عبر قوارب الموت)، وربما لن ألوم البعض خيارهم أو أضع نفسي في موقع “الطز حكمة” بل سأعالج الظاهرة وأسبابها، و التي عادة ما تجرنا إليها بدرجة أولى الأوضاع الاجتماعية للرياضي المرتبطة أساسا بالماديات، كما لا يمكن أن نغفل عن مسألة مهمة وهي تأطير النخب لا فنيًا فحسب بل اجتماعيًا ونفسانيًا، وبلغة الأرقام فان أغلب الرياضيين “الحارقين” ينحدرون جلهم من أسر متواضعة اجتماعيًا، بالإضافة إلى معاناتهم من التهميش داخل الأندية و المنتخبات و تشتتهم وسط كثرة الوعود التي تبقى حبرا على ورق، فمثلا الملاكم التونسي الذي يتحصل على بطولة أو كأس تونس أو حتى يتوج بطلاً في إحدى البطولات الإقليمية أو يحصل على إحدى الميداليات على ماذا يتحصل أؤكد لكم لا شئ إلا بعضا من الدروع أو شهائد الشكر و بعض من المبالغ المالية التي يخجل الواحد من ذكر أرقامها ….
ويجرّنا الحديث حتى الملاكمين الذين ينتمون للمنتخب الوطني مالذي نقدمه لهم حتى نحافظ عليهم، أعتقد لا شئ … فأغلبهم يعانون التهميش وبعضهم لا يملك حتى المال للتنقل لاوصول لقاعات التمارين وتجدهم في كثير من الأحيان يُخيّرون ” الترسكية ” ( الركوب في وسائل النقل ) لعدم امتلاكهم ثمن التذكرة …
ولسائل أن يسأل مالذي نوفره لهؤلاء الأبطال و البطلات، غير الظروف المزرية سواء في التدريب أو في أبسط الاشياء الضرورية لهم من أكل و لباس و منح مالية، و هل قامت الاتحادات الوطنية بالواجب المناط بعهدتها لتسيير المرفق العام الرياضي، و مالذي يجعلنا في كل مرة نتحسر ألمًا في ضياع أبطالنا الذي كان الأمل فيهم لإعادة المجد والنجاحات …
لن أستحضر نجاحات بعض من أبطالنا السابقين والحاليين في مختلف الرياضات وخاصة الفردية ممن خيّروا الهروب وحققوا نجاحات كبيرة حتى لا أتهم بالتشجيع على ” الحرقة “، بل أردت أن الملاكمين وجدوا في الخارج ما لم يجدوه في تونس وهنا “مربط الفرس” كما يقال في المثل التونسية، ولا يجب أن ننكر أيضا أن البعض منهم وجد صعوبات عديدة خاصة في ظل وجوده ببلد بطريقة غير قانونية مما يعرضه للإستغلال من بعض الاطراف لتشريكه في نزالات غير منظمة وغير قانونية ولكن تبقى هذه الحالات استثناء ولكن موجودة …
أعتقد و أن الظروف الإجتماعية و الرياضية الصعبة و المترّدية هي التي تجعل وتدفع الملاكم في أن يُضحي بمسيرته وسنوات من عمره قضاها في الحلبات و داخل قاعات التدريب للهروب بحثًا عن آفاق أخرى يحقق بها ربما بعضًا من أحلامه …
تقولي من المسؤول … وزارة الرياضة انقلك مسؤولة
جامعة الملاكمة انقلك مسؤولة
الأندية انقلك مسؤولة
المسؤولين نفسهم .. انقلك مسؤولين
لن أكون مع خيار هروب الأبطال ” الحرقة ” ولن أشجع عليها لأن المسألة أخطر مما يتصوره البعض، ولكن لا بد من البحث عن حلول عاجلة بمعالجة أسبابها، و في الآن نفسه أقول لكم أن الوطنية مهمة و لكن في غياب العيش الكريم يُصبح الأمر صعبًا …
بقلم #حلمي_ساسي